بياجي في الإدارة التربوية: من البيداغوجيا إلى الديداكتيك
مقال مترجم ترجمة: د. محمد مريني
تقديم:
تكمن أهمية هذا المقال في كونه يسعفنا في التعرف إلى مرحلة مهمة من حياة بياجي؛ وذلك حين كان مديرا للمكتب الدولي للتربية. لقد كان بياجي يحرص في كل سنة،
وطيلة السنوات التي تولى فيها المسؤولية في هذا المكتب، على تحرير خطابين أحدهما موجه إلى "مجلس المكتب الدولي للتربية"،وثانيهما إلى "المؤتمر الدولي للتكوين الجماهيري العمومي".
تشكل هذه الخطابات مادة تربية ضخمة، نجد فيها المبادئ البيدغوجية الأساسية لمشروعه؛ الأكثر من ذلك أن بياجي كان يتجاوز في هذه الخطابات الجوانب التربوية والبيداغوجية العامة لتقديم اقتراحات مرتبطة بالجوانب الديداكتيكية لتدريس بعض المواد: خاصة في مادتي الرياضيات والعلوم الطبيعية.
المقال المترجم:
يقول بياجي "هناك عنصر اللعب في هذه المغامرة"[i]كأنه يريد أن يقلل من أهمية هذه التجربة. لكن، بعد مدة يسيرة سيصبح "بياجي" على رأس هذه المؤسسة الدولية: من 1929إلى 1968. وهذا يشكل –في الحقيقة- عملا متميزا، ليس بالنظر إلى طبيعة العمل في حد ذاته، ولكن في علاقته بشخصية بياجي نفسه، المعروف بعدم اهتمامه بالمشاركة في المهام غير العلمية!
كيف نفسر إذن هذا القبول؟ هل يتعلق الأمر بالرغبة في تحسين الطرق البيداغوجية، من خلال "التبني الرسمي لتقنيات أكثر تكيفا مع العقل الطفولي"؟[ii]. هل يمكن أن نر في هذا القبول محاولة للتمكن من وسائل تسعف في التدخل بشكل أكثر فعالية في المؤسسات المدرسية الرسمية، عن طريق إدارة حكومية عليا؟ هل يتعلق الأمر باختيار لمواجهة الجهل المنتشر بين الشعوب، وأيضا مواجهة خطر الحروب، من خلال مجهود تربوي موجه في اتجاه القيم الإنسانية؟
كان بياجي يحرص في كل سنة، وطيلة السنوات من 1929إلى 1967، على تحرير خطاب موجه إلى مجلس المكتب الدولي للتربية، ثم إلى المؤتمر الدولي للتكوين الجماهيري العمومي. نجد في هذه النصوص -التي غفل عنها أغلب الذين تناولوا أعمال بياجي- المبادئ البيدغوجية الأساسية لمشروعه، وهي مقدمة بوضوح لا نجده في غيره من كتاباته. إذن من خلال هذه النصوص، ومن خلال الأعمال القليلة، التي قبل بياجي أن ينشرها عن مشاكل التربية[iii]، يمكن إضاءة المبادئ الأساسية، التي توجه مشروعه التربوي. وسنكتشف أن هذا المشروع ليس غامضا كما يرى ذلك الكثيرون.
قبل كل شيء –خلافا لما يعتقده الكثيرون- يعطي بياجي للتربية أهمية قصوى، فهو لا يتردد في القول إن "التربية هي القادرة وحدها على حماية مجتمعاتنا من تفكك، قد يأتي عنيفا أومتدرجا[iv] . لهذا فإن المؤسسة التربوية تستحق أن تتكاثف من أجلها الجهود. وبعد الخراب الذي عرفه العالم في الحرب العلمية الثانية، صرح قائلا: "بعد الانهيار الذي أصاب العالم تبدو التربية، مرة أخرى، العامل الحاسم، ليس فقط في إعادة البناء، لكن أيضا في عملية البناء الفعلي"[v]. لقد كانت التربية بالنسبة ل"بياجي" الرهان الأول لجميع الشعوب، بعيدا عن الاختلافات الإيديولوجية والسياسية. إن "الرصيد الإيجابي المشترك لكل الحضارات هو تربية الطفل"[vi].
لكن ما هو نوع هذه التربية التي يريدها بياجي؟ هنا أيضا –وخلافا لما سيقوله فيما بعد في برينغويي Bringuier- لا يتردد بياجي في التعبير عن آرائه في هذه "الخطابات". في البداية، يعلن عن القاعدة الأساسية في فكره التربوي قائلا: "أسلوب الإكراه هو أسوأ أسلوب في التربية"[vii]. ولذلك "في مجال التربية تكون القدوة أجدى من الإكراه"[viii].هناك قاعدة أخرى أساسية، عبر عنها عدة مرات، هي أهمية نشاط الطفل: "الحقيقة التي نصل إليها عن طريق الحفظ لا تشكل إلا نصف الحقيقة، إن الحقيقة الكاملة هي تلك التي يصل إليها الطفل، أويعيد بناءها واكتشافها"[ix]. يقوم هذا المبدأ التربوي على حقيقة نفسية لا نقاش فيها: "تعلمنا كل الطرق التربوية الحديثة أن التفكير يسبق الإنجاز"[x]. من هنا فإن تمارين البحث ينبغي أن تلعب دورا أساسيا في الإستراتيجية التربوية؛ لكن هذا النوع من البحث لا ينبغي أن يكون مجردا: "يفترض الإنجاز القيام بأبحاث سابقة، والبحث ليست له من قيمة إلا من أجل الفعل"[xi]
إذن، الدعوة إلى مدرسة بدون قيود، حيث يكون الطفل مدعوا إلى التجريب بطريقة حية، من أجل إعادة بناء ما يريد أن يتعلمه. إلى هنا نكون قد وضعنا صورة مكثفة لمشروع بياجي. لكن ينبغي أن ننتبه إلى ما يلي: "لا يمكنأن نتعلم التجربة، ونحن نكتفي بمشاهدة المدرس وهو يجرب، أومن خلال الاعتماد على تمارين جاهزة. ينبغي أن نجرب من خلال محاولتنا الخاصة، وأيضا من خلال العمل النشيط الحر، مع أخذ الوقت الكافي لذلك"[xii] اعتمادا على هذا المبدأ الذي يعتبره أساسيا لا يخشى بياجي الجدال: "تكون المدرسة ،في أغلب الدول، لغويين، ونحاة، ومؤرخين، ورياضيين، لكن لا تنجح في تربية العقل التجريبي. ينبغي الإلحاح على هذا المشكل الكبير، المتمثل في تكوين العقل التجريبي. لا ننس أن المشكل الكبير في المدارس الابتدائية والإعدادية هو في تكوين العقل التجريبي"[xiii].
وما هو دور الكتب والمؤلفات المدرسية في هذه المدرسة؟ يقول: "في المدرسة المثالية لا نقتني كتبا مدرسية بشكل إجباري، لكن يمكن للتلاميذ أن يستعملوا تآليف بطريقة حرة (...) الكتب المسموح بها هي كتب المدرس"[xiv].
هل يعتبر بياجي أن فاعلية هذه المبادئ مرتبطة بتربية الطفل فقط؟ يجيب: "على العكس، إن الطرق التربوية الفعالة، التي تدعو إلى هذا النوع من العمل العفوي، والموجه في الوقت نفسه من خلال الأسئلة المطروحة؛ حيث يعيد التلميذ اكتشاف وبناء الحقائق عوض تلقيها جاهزة، ضرورية للراشد أيضا، مثله مثل الطفل(...) في الحقيقة، ينبغي أن نتذكر أنه في كل مرة يتعرض فيها الراشد لمشاكل جديدة بالنسبة إليه، فإن تسلسل ردود الفعل بالنسبة لهذا الراشد تشبه تطور ردود الأفعال أثناء النمو العقلي"[xv].
إذن، هذه هي المبادئ التي تشكل القاعدة الأساسية للتربية عند بياجي. فيما يتعلق بالنظم الخاصة ببعض المواد، يسرف "بياجي" في تقديم نصائح محددة، خاصة في ما له علاقة بتدريس مادة الرياضيات. "على اعتبار أن نمو الطفل يتحقق في المجال الحسي- الحركي أكثر منه في مجال المنطق اللغوي، من المناسب أن نعطي له خطاطات الفعل التي يستطيع الاعتماد عليها لاحقا (...) التدرب على الرياضيات سيكون معززا بتربية حسية حركية، كما نمارسها -على سبيل المثال- في مؤسسة "دار الصغار" في جنيف"[xvi].
ولقد كان موقفه من هذه المادة جد واضح: "فهم الرياضيات ليس مسألة قدرة عند الطفل. من الخطأ إذن أن نعتقد أن الخطأ في الرياضيات يأتي من نقص في القدرة (...) العملية الرياضية تستمد من الإنجاز: من هنا نستنتج أن الاعتماد على الحدس لا يكفي، ينبغي على الطفل أن ينجز العملية بنفسه، ينبغي للعملية اليدوية أن تحضر للعملية العقلية(...) في كل مجالات الرياضيات ينبغي للكمي أن ينبثق عن العددي"[xvii].
كما أن تدريس العلوم الطبيعية يحظى عند بياجي بأهمية خاصة: "يفاجأ علماء النفس، الذين يدرسون سيكولوجية العمليات العقلية عند الطفل وعند المراهق، دائما بالوسائل التي يتوفر عليها الطفل العادي في هذا المجال، شريطة أن نمنحه وسائل العمل بطريقة حية، دون أن نجبره على كثير من التكرار السلبي (...) انطلاقا من وجهة النظر هذه، فإن تدريس العلوم هو التربية الفعالة على الموضوعية، وعلى تعود التحقق من الأشياء"[xviii].
لكن، مبدأ التربية الفعالة يمكن تطبيقه أيضا على مجالات أقل تقنية، مثل اكتساب لغة حية؛ وذلك من خلال "تعلم لغة بطرقة مباشرة، من أجل السيطرة عليها، ثم التفكير فيها لاستخلاص قواعدها النحوية"[xix] أوحتى تشكيل وعي دولي: "من أجل مواجهة الشك وصعوبات التواصل بين الشعوب، قدم لحد الآن علاج واحد ذو طبيعة عاطفية، في شكل دروس، وفي شكل دعوات إلى استحضار الوعي(...) ينبغي أن نقيم بين التلاميذ، خاصة المراهقين منهم، علاقات اجتماعية، ودعوة إلى نشاطهم وإلى مسؤوليتهم"[xx].
وفي ما يتعلق بالعلاقة بين التربية وعلم النفس، يبدو بياجي في "خطاباته" أكثر صراحة منه في كتاباته الأخرى. أولا إن العلاقة بين التربية وعلم النفس، هي بالنسبة إليه، علاقة ضرورية: "في الحقيقة لا أعتقد بأن هناك بيداغوجوجيا عالمية. إن المشترك في كل الأنظمة التربوية هو الطفل نفسه، أوعلى الأقل ملامح عامة من نفسيته"[xxi]. هذه الملامح -تحديدا- هي التي ينبغي على علم النفس أن يوضحها، لكي يتسنى للطرق التربوية أن تأخذها بعين الاعتبار : "لا يمكن أن ننكر أن أبحاث علماء النفس هي التي شكلت نقطة البداية لكل الابتكارات ذات الطابع المنهجي والديداكتيكي في العشرية الأخيرة. إنه من غير الضروري التذكير هنا بأن جميع الطرق التربوية التي استدعت المصالح والنشاطات الواقعية للتلاميذ قد استلهمت علم النفس التكويني"[xxii].
لكن، "العلاقات بين البيداغوجيا وعلم النفس معقدة: فالبيداغوجيا فن، أما علم النفس فهو علم. لكن، إذا كان فن التربية يتطلب قدرات فطرية فريدة فإنه في حاجة إلى التطوير من خلال إمداده بالمعارف الضرورية عن الكائن الإنساني، الذي نريد تربيته"[xxiii]. فضلا عن ذلك، "نؤكد باستمرار أن التربية فن وليست علما، لذلك فهي غير ملزمة بالتماس تكوين علمي. إذا كان هذا الأمر صحيحا، فالتربية مثلها مثل الطب؛ الذي يتطلب قدرات ومواهب فطرية، لكنه يلتمس أيضا معارف تشريحية باثولوجية ..إلخ. أيضا، إذا كانت البيداغوجيا تريد أن تهذب التلميذ، ينبغي لها أن تنطلق من معرفة الطفل، أي من علم النفس"[xxiv].
بشكل أكثر وضوحا، على مستوى البحث العلمي، يعتبر بياجي –بلغة لا تخلو من جدال- أن البيداغوجيا التجريبية لا يمكن أن تستمر بدون إقامة علاقة مع علم النفس: "إذا كانت البيداغوجيا تريد أن تصبح علما وضعيا خالصا؛ أي علما يقتصر على ملاحظة الحدث دون أن يسع إلى تفسيره، ويقتصر على ملاحظة النتائج، لكن، دون أن يبحث لها عن أسباب، فإنه من المؤكد أن هذه البيداغوجيا لن تحتاج إلى علم النفس (...). لكن، إذا كانت البيداغوجيا التجريبية ترغب في فهم ما تكتشفه، وتفسير النتائج التي تلاحظها، والعمل على تفسير السبب الذي يجعل بعض الطرق البيداغوجية تتفوق عن الأخرى من حيث الفعالية، يعني ذلك العودة على الدوام إلى علم النفس البيداغوجي وليس إلى مقياس المردودية في البيداغوجية التجريبية"[xxv]
لكن، إذا كانت العلاقات بين البيداغوجيا وعلم النفس معقدة، فإن الحوار بين المربي والعالم النفسي ليست أفضل حالا. يذهب بياجي إلى حد تقديم نصائح ذات طابع استراتيجي، تعبر عن حكمة وتجربة مفاوض حاذق. يقول: "ينبغي دائما أن نتذكر القاعدة الأولية في علم النفس، التي مفادها ما يلي: للإنسان عموما حساسية في تلقي الدروس، ولا شك في أن المربين هم أكثر حساسية في ذلك.منذ القديم عرف علماء النفس أنه لكي يسمع المدرسون والإداريون إلى كلامهم ينبغي أن يحترسوا من الظهور بمظهر من يعود إلى المذاهب النفسية، ويكتفوا بالتظاهر بالعودة إلى الفطرة السليمة"[xxvi].
قد يبدو هذا الكلام ذو طابع انتهازي لأول وهلة! لكن، إذا فكرنا بعمق سنجد هنا أيضا العقيدة التربوية الأساسية ل بياجي: "لنا الثقة التامة في القيمة التربوية والإبداعية للتبادل الهادف. لقد اعتقدنا أن التكوين المشترك والفهم المتبادل، انطلاقا من وجهات نظر مختلفة يسهمان في تكوين الحقائق. لقد فندنا سراب الحقائق العامة من أجل الاعتقاد في هذه الحقيقة الملموسة والحية، التي تنشأ من خلال المناقشة الحرة، وأيضا من خلال عمليات التنسيق الجاد والمتحسس للمنظورات المختلفة، بل والمتناقضة أحيانا[xxvii].
هذه العقيدة لا تقتصر على المجال التربوي: بل هي بالنسبة ل بياجي الشرط الضروري لكل عمل علمي، والمبدأ المنظم لكل نشاط إنساني، قاعدة حياة كل كائن عاقل.