التربية الفنية وأثرها على المدرس والمتمدرس
ينطلق تصورنا لقضايا التربية والتعليم انطلاقا من تمرسنا بالتدريس الفني,وبحثنا الأكاديمي في الميدان المسرحي نظرية وممارسة,وانطلاقا أيضا من خبرتنا العملية في التعليم واختبارنا لنجاعة التكوين الفني في صقل شخصية المدرس وفي تطوير مهارات المتعلم وكفاءاته الشخصية.
إن بيداغوجيا التعليم الحالية تركز على التدريس بالكفايات,فتعلم المتمدرس كيفية توظيف موارده من أجل بناء مجموعة من الكفايات الشخصية,وذلك من أجل الاستفادة منها داخل محيطه السوسيوثقافي,وبلورتها في أفق توظيفها داخل محيطه المهني.وتتم هذه العملية ضمن سيرورة تهدف إلى بناء كفايات إستراتيجية في نهاية المطاف.
على العكس من البيداغوجيا الفرانكفونية,تركز البيداغوجيا الأنكلوساكسونية على الفاعلية و النتائج,فتضع الكفايات الإستراتيجية ضمن أولوياتها,حيث تجعل من المدرسة فضاءا لصناعة القادة والنخب,وللبحث والإبداع,وتمنح المدرس والتلميذ هامشا كبيرا من الحرية,يصبح فيه المدرس متمدرسا في بعض الأحيان,كما يصبح المتمدرس مدرسا بدوره,فتجعل من المدرسة فضاءا للتجديد والابتكار.وفي سبيل تحقيق ذلك,أقرت المدارس الأنكلوساكسونية التربية الفنية في مدارسها كوسيلة للتطوير الذاتي وللتهذيب والرقي,وتعلم روح الإبداع والابتكار.
تركز التجربة الأمريكية على التربية الفنية كوسيلة للتطوير الذاتي,وهي تعتمد المسرح بشكله التطبيقي كوسيلة لتعلم تقنيات الخطابة والحديث إلى الجمهور, فيكتسب المتمدرس الفصاحة عبر توظيفه لتقنيات الصوت والإلقاء,كما يتعلم كيفية تحويل التوتر إلى طاقة إيجابية تستنفر قدرات العقل الباطن,و كيفية تجاوز خجله وتنمية الثقة في ذاته وفي الآخرين.
أما بالنسبة للمدرس فإن التمارين الدرامية تجعله يطور ذكاءه العاطفي,حيث يصبح بإمكانه أن يخلق علاقة مع المتمدرس يسودها الذكاء العاطفي القائم الاحترام التفاعلي,فيستطيع كل منهما أن يصل إلى أفكار ومشاعر الآخر دون أن يخرق أي منهما العقد القائم على أساس الاحترام المتبادل.بهذه الطريقة طورت البيداغوجيا الأنكلوساكسونية مفهوم الاحترام,فجعلته تفاعليا بين المدرس والمتمدرس,خلافا للطابع الانعزالي الذي كان عليه في السابق.
بالنسبة للتجربة الأسترالية تُعتبر دروس الدراما بشكليها النظري والتطبيقي جزءا لا يتجزأ من المنظومة التربوية خصوصا بسلك التعليم الثانوي,إذ تساهم هذه العملية في بلورة شخصية المتمدرس,وجعله كفؤا وفاعلا ,فتجعل من الكفاءة الشخصية
.Le savoir faire أهمية تتجاوز أهمية المهارة Le savoir être .وتركز التجربة الأسترالية أيضا على التهذيب والرقي بالذوق من خلال التربية الفنية, فتهدف إلى خلق مواطن مدني ومسئول, مرتبط بثقافته وهويته لكنه منفتح على الآخر.فالتعليم الفني يساهم في معرفة الذات والآخر,فيربى الفرد على قيم التسامح وقبول الاختلاف,كما يكسب المتعلم كيفية تكوين وجهة نظر.هكذا,يكبر الشخص وقد تحصنت شخصيته,وأصبح منيعا ضد أي اختراق متطرف عقديا,فكريا أو إيديولوجيا.
على الصعيد العربي تبقى تونس الدولة العربية الوحيدة التي كانت سباقة إلى إقرار الدرس المسرحي بشكليه النظري والتطبيقي ضمن مقرراتها,وقد ساهم هذا الأمر في بلورة شخصية المواطن التونسي, حيث نلمس ذلك في شخصية الإنسان التونسي,إذ يتحدث بكل طلاقة وفصاحة, ويعبر عما يختلجه بدون أن يرتبك أو يتلعثم,سواء أمام الكاميرا أو الجمهور.
وبالنسبة للمغرب,فلقد بدأ الوعي في السنوات الأخيرة بأهمية التربية الفنية,حيث بدأ الأمر مع إقرار دروس التربية التشكيلية والتربية الموسيقية في سلك الإعدادي,ثم مؤخرا مع محاولة إقرار مادة الثقافة الفنية بسلك الثانوي التأهيلي.لكن هذه التجربة تم إنجازها في غياب تصور واضح يُدخل التربية الفنية في صلب المنظومة التعليمية,مما جعلها تتخبط في مجموعة من المعيقات, كانعدام فضاءات الممارسة الفنية داخل المؤسسات التعليمية:صالة مسرح وعروض بصرية ،وقاعات مخصصة للورشات الفنية,وغياب أطر متخصصة في التدريس الفني.ولتجاوز هذه الوضعية يتم تكليف أساتذة اللغة العربية وآدابها بملء هذا الخصاص رغم عدم أهليتهم لهذه المهمة وذلك في إطار ما يسمى بالمواد المتقاربة,وفي هذا الأمر تجني كبير على هذه المادة,باعتبار أن التدريس الفني يعد اختصاصا بحد ذاته,ويتطلب أطرا ملمة ومتمكنة من مجموعة من الميادين الفنية نظريا وتطبيقيا.ونحن نقترح عقد شراكة مع وزارة الثقافة قصد استقطاب أطر متخصصة تخرجت من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي,باعتبارها أطرا تجمع بين معارف فنية متعددة,إذ درست الموسيقى,وتاريخ الفن,والفن التشكيلي,والرقص,والسرد الفيلمي,والتمثيل...كما نقترح الانفتاح على خريجي سلك الماستر بالجامعة تخصص فنون,ويجب إخضاع هذه الأطر لتكوين لا يقل عن ثلاثة أشهر, يتعلمون خلاله تقنيات الصوت والإلقاء ويتمرسون على مهارة الحديث أمام الجمهور,كما يجب إخضاعهم لدورات تكوينية في مجال الذكاء العاطفي,بالإضافة إلى دروس نظرية في علوم التربية
وسيكولوجية المراهق.
إن اعتماد التربية الفنية بهذا الشكل داخل أسلاك التعليم الثانوي التأهيلي بالمغرب كفيل بأن ينتج لنا نخبا وقادة يستطيعون النهوض بأي مشروع مجتمعي,وخلق مواطن مسئول منصهر داخل الجماعة ,يمتلك فكرا حرا ويتميز بروح المبادرة والقدرة على الخلق والابتكار,مما سيغنيه عن الالتحاق بطابور العاطلين عند حصوله على شهادة مهنية أو جامعية.
كما سنساهم بهذه الطريقة في محاربة العنف داخل المدارس,حيث تمكن التربية المسرحية المراهق من تفريغ شحنته العاطفية السلبية عن طريق ميكانيزم التسامي,فيستطيع اكتشاف جسده وشخصيته ويتصالح معهما, ويحول عقده إلى موضوعات فنية وجمالية."أعطني مسرحا أًعطك شعبا".هكذا ردد أحد كبار المسرحيين.وبدورنا نقول,أعطني تربية فنية,أُعطك مواطنا مسئولا ومدنيا.
أنس العاقل
ممثل, وأستاذ باحث في الفنون